أين سنذهب عندما نموت ؟




كانت الليلة إستثنائية جدا ومليئة بالترقب .. تحلق فيها كل أفراد العائلة حول جهاز التلفاز في كل بيت حول العالم وتوقفت جميع المحطات لنقل الحدث والتعليق عليه حتى الشوارع التي خلت من الناس شهدت إزدحاما أمام واجهات محلات بيع الألكترونيات لمشاهدة اللقاء الفريد عالميا وتالريخيا.

مرت أسابيع قليلة منذ أن إنفجرت وسائل الإعلام بخبر مدوي عن عودة إنسان من الموت ..
نعم فقد عاد هذا الرجل الذي توفي بشكل طبيعي إلى الحياة بعد مرور أقل عام على دفنه ولا أحد يمتلك أي إجابة أو تفسير لما حدث

بعض الأوساط تبنت نظرية مؤامرة عالمية ومسرحية إعلامية لتوجيه الشعوب والسيطرة عليها من خلال الإعلام
وتوافق المتشككون والملحدون مع هذا الموقف - والذين تناقص عددهم بشكل واضح بعد ثبوت الحادثة بكل المقاييس -
ولم تقنع كل نظرياتهم عن أن هذه مجرد مسرحية هدفها جمع متبعين جدد لدين ما  أحدا فبالنهاية ..
الرجل الذي عاد من الموت لم ينبس ببنت شفة بعد ولم يدعي لا نبوة ولا ألوهية ولم يتحيز إلى دين دون غيره.

لا أحد يعرف شيئ بعد عن تفاصيل رحلته .. كل ما تم التأكد منه بالفعل هو أن المدعو شهيد راجان من الهند توفي بنوبة قلبية وقد تم  التأكد من ذالك وإصدار شهادة وفاة معتمدة في المستشفى المركزي في محافظته وتم دفنه بحسب الشعائر المسيحية لعائلته .. وقد تم التأكد من الأطباء والشهود .. الموضوع مؤكد لقد مات وبالفعل عاد إلى الحياة.

وبعد مرور تسع أشهر وأثناء منتصف الليل دفع رجل أشعث الشعر  باب مخفر الشرطة وارتمى على أرضه يصرخ وهو مغطى بالوحل والذهول والرعب على خلفية موسيقية من الرعد والمطر من خلفه : إنه حي..  إنه حي ..!
كان أحد لصوص القبور يحفر قبر شهيد راجان طمعا في سن ذهبية أو خاتم زواج ولكنه فوجئ بعيد فتح التابوت بالجثة تفتح عينيها الجافتين وتصرخ بصوت مدوي ..

لم يمضي وقت طويل حتى إجتمع أهل المدينة في رعب شديد حول القبر المفتوح كل يحمل سلاحا ويستذكر كل أفلام الرعب التي يستيقظ فيها الأموات ويلاحقون الأحياء ولم يحمي شهيد الذي ظل قابعا في تابوته صامتا فاغر العينين إلا بضع رجال من الشرطة إعتقدو أنه شخص آخر يقوم بمقلب ما .. منذ ذالك اليوم إسترجع شهيد حيوية جسمه حيث غذى المطر الهاطل ذالك اليوم عروقه وعادت الحياة لذالك الجسد المتهالك بالتدريج مع الرعاية الطبية التي قدمت من عدة جهات ومنظمات عالمية ..

في نفس الوقت إنشغلت كل وسائل الإعلام بهذه المعجزة وتسابق رجال الدين تارتا لإعلان نهاية العالم وتارة إلى الاحتفال بوصول المخلص الجديد وغلب على الرأي العام التركيز على الجانب الديني وانتشرت المناظرات الدينية والقنوات الدعوية والأديان الجديدة التي تمحورت حول هذا العائد الغامض .

تفتتح قناة تلفزيونية على كل شاشات التلفاز في الواجهة برنامجها بموسيقى حماسية وصور للرموز الدينية ويظهر المذيع بين عدة رجال يرتدون قبعات مضحكة.

- الحياة والبعث .. الله وإرادته الغامضة ويده التي تصنع المعجزات حتى في هذا العصر الحديث .
هل عاد زمن المعجزات ؟ .. هل يحاول الله التواصل مع البشر بعد هذا الصمت الطويل ؟ .. ولماذا اليوم بالذات .؟  وما هي الرسالة الجديدة التي يحملها لنا شهيد من العالم الآخر .. أسئلة كثيرة تحوم حول العالم وتحتاج إلى إجابة ومعنا في الستوديو مجموعة من الشيوخ ورجال الدين في محاولة لاستقراء الحدث.

- هذا كلام غير دقيق " يبدأ الشيخ بالكلام " هذا العبد الصالح لم يأتي برسالة جديدة فكلنا يعرف أن محمد كان آخر الانبياء والمرسلين من الله تعالى إلى بني البشر .. وما قدومه وبعثه إلا تأكيد على حقيقة هذه الرسالة.

- إن الحمد للرب والملكوت له .. " يقول مبعوث الفاتيكان " هذا دليل على صحة رسالة أبن الأنسان فقد تجلت معجزته في قيامة هذا العبد المسيحي الصالح ليثبت للجميع بطلان كل ما أتى من بعده من بدع وضلالات .

- يدخل الحاخام على الخط : هذا كلام فاسد .. فعودة هذا الإنسان إلى الحياة من البرزخ معجزة تعلن أنه المسيح المنتظر من بني إسرائيل ودليل على بطلان كل الأدعائات والأباطيل التي أتت بعدها .. لقد وصل مخلص اليهود أخيرا وسينعم شعب الله المختار بالعزة والعدالة الإلاهية من جديد .

- رفع رجل رابع بقبعة مضحكة مصنوعة من ورق الألمنيوم إصبعه وقال : لقد خسئتم جميعا .. كل أديانكم خرافات من العصر البرونزي وهذه هي أول معجزة حقيقية موثقة بالدليل وهي دليل على دين البعث الجديد الذي يحمله لنا النبي الحقيقي شهيد تبارك جثمانه الحي الطاهر.


لم يمض وقت طويل حتى بدا الضيوف في المشاجرة والعراك في ما بينهم والمعلق بينهم يتلقى نصيبه من اللكمات والصفعات محاولا تفريقهم عندما إنتقلت الصورة إلى مذيع آخر في جانب آخر من الأستوديو بحاجب مرفوع  ليعلن إنتقال البث لنقل المؤتمر الصحفي مع شهيد راجان وفي الخلفية يمكن بوضوح سماع الشتائم ورؤية تطائر بعض قطع الأثاث والقبعات المضحكة.

كانت القاعة كبيرة وفي الحضور عدد غفير من رؤساء الدول ورجال الأعمال ورجال الدين والبعثات العلمية بل وحتى الماسونيون كانو موجودين هناك وكان يجلس على الطاولة في المنتصف شهيد مطأطء الرأس و تبدو على ملامح وجهه الشاحب وعينيه الغائرتين ملامح الصدمة والرعب وأمامه ميكريفون منحني بتواضع وسكون .

تقدم أشهر مذيع برامج في العالم إليه بخجل وحذر :

- سيد شهيد راجان .. هل تستطيع إخبارنا عن العالم الآخر .. الجنة والنار والله والحساب ..؟

رفع شهيد عينيه ببطء ونظر إلى الحشود المترقبة وتغيرت نظرته إلى نظرة شفقة وسخرية وبعد مرور دقائق من الترقب تكلم للمرة الأولى منذ عودته للحياة

- تريدون معرفة ماذا يوجد بعد الموت ؟ .. حقا ؟
سأخبركم بما عرفت ورأيت .. في البداية صنع الله ثلاثة صناديق ملونة الكون و الجنة و النار ..
وكان يلعب لعبة غريبة .. كلما مات إنسان وخرج من صندوق الكون رمى الله النرد .. وعلى نتيجة النرد كان يقسم الناس بين صندوق الجنة الأخضر  وصندوق النار الأحمر ..
منذ ذالك الوقت كبر الله وترك ألعابه السخيفة وأصبحت الجنة والنار والكون منسية كصناديق قديمة مصفوفة فوق بعضها في سقيفة بيت مهجور ..


عم الصمت القاعة .. بل عم الصمت العالم كله لبضع دقائق مضت كأنها دهور .. وسأل المذيع مرة أخرى ..

- إذن .. إذن أين سنذهب عندما نموت ؟

- عندما يخرج الناس من صندوق الكون يسقطون في الصندوق الأحمر الذي تحته ..
كل من مات وسيموت سيذهب إلى الجحيم .. كلنا سنذهب إلى الجحيم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق