وهم السماء



السماء! هذا الغشاء الساحر الذي شغل مخيلة البشر لعصور! فجعلت منها جميع الحضارات مسكناً لآلهتها ومصدراً لأساطيرها وإلهاما لإبداعاتها.
السماء! كل طفل يعرف السماء. وكل حالم يعشق السماء. وكل عاشق يضيع في مخيلته حين هي تضيع في السماء.
وكل شاعر يُقسم بالسماء. وما أدراه وما أدراك ما السماء!
كلنا نعرف السماء. كلنا نفرح حين نراها صافية ونتوقع أن ينزل منها المطر حين تكون غائمة. وكلنا في طفولتنا رسمنا أشكالاً ووجوها من غيومها ونجومها. وكل إنسان على وجه هذه الأرض يحفظ ألوانها. بزرقتها في الصباح وحمرتها عند المغيب وسوادها في الليل.
وكل طفل يعرف السماء. وما أدراه ما السماء؟
كلنا نعشق شمسها ونتغنى بقمرها. وكلنا من سلالة أناس عبدوا كواكبها وبعضنا لا يزال يعتقد واهماً بأن مصائرنا وأسرارنا محفوظة في أبراجها.
وكل طفلة تعرف لون السماء. وما أدراها ما السماء!
يؤمن المؤمنون أن إلههم “رفع” السماء “بغير عماد” (الرعد ٢). وأنه جعل شمسها ونجومها وكواكبها “مصابيح” للعباد (فصلت ١٢). وأن إلههم جعل “السماء سقفا محفوظا” فوقهم (الأنبياء ٣٢) وأنه “يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه” (الحج ٦٥). بل ويستكبرون على من لا يتبع دينهم لأن ربهم قضى أنها “لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط” (الأعراف ٤٠). ويؤمنون بهذا كما يؤمنون أنه لا يحدث شيء في الأرض ولا في السماء ولا يُلحد ملحد إلا بإذنه.
وكل عبيد الله يعرفون السماء. ولكن هل يعرف رب العباد السماء؟ وما أدراه ما السماء!
كلنا فكَّرنا في السماء وفي ماهية السماء. ولكن هل لأحد أن يحدد لي أين هي تلك السماء؟
قد يدعي البعض أن السماء هي “الغشاء الجوي” للأرض ولكن أليست الشمس والقمر والنجوم جزء من السماء كما نعرفها؟ إذن فلا بد أن السماء أكبر من الغشاء الجوي! وربما يدعي البعض أن السماء هي الغشاء الجوي بالإضافة إلى ما بعده من الفضاء الخارجي (أي كل شيء عدا الأرض نفسها). ولكن إن ذهبنا في مكوك إلى الفضاء الخارجي, سنجد أنه لا سماء لنا من موضعنا في تيه الفضاء فكل ما حولنا “فضاء”, وإن إدعى البعض أن هذا أمر طبيعي لأننا أصبحنا “داخل” السماء. إذن ما قولهم إذا هبطنا على كوكب آخر ونظرنا فوجدنا أننا غادرنا السماء وأن الأرض (كوكبنا ومسكننا) أصبحت جزءاً من السماء لا محالة وأن هذا الكوكب الذي ألفناه كجزء من السماء أصبح مختلفاً عنها لا محالة. أيعقل أن ندعي أن السماء هي الكون بأكمله؟ أم هل يعقل أن ندعي أن كوكب الأرض أو أحد الكواكب الأخرى يعتبر جزأ من السماء تارة ومختلفاً عنها تارة أخرى. وهل يتفق هذا وما نعرفه وألفناه عن السماء؟ أم ربما من الأفضل أن ندعي أن لكل كوكب سماء؟
ولكن حتى لو إدعينا هذا سنعود إلى نفس المشكلة من الجديد, وهي: أين سماء الأرض (كوكب الأرض) وأين موضعها؟ وبالأخص, أين بداية وأول السماء؟
والمشكلة في تحديد موضع السماء هي أنها دائما “فوقنا”, كلما صعدنا لنقترب منها كلما ابتعدت عنا. وعلى هذا, فأي موضع نختاره ليكون “بداية السماء” نجد أننا إذا صعدنا إليه وجدنا أن السماء لا تزل فوقه.
ولكن ما إن صعدنا أكثر فأكثر وإبتعدنا عن الكرة الأرضية أكثر فأكثر ووجدنا أنفسنا قد توغلنا في الفضاء, وجدنا أنفسنا بلا سماء بل ووجدنا أنفسنا “فوق” السماء (أو على الأقل فوق جزء منها). فهل صعدنا فوق “بداية السماء”؟ ولكن متى تخطيناها وتعديناها؟ وكيف لنا أن نكون قد تجاوزنا وتخطينا السماء أو بدايتها أو نهايتها إن كنا لا زلنا لم نتجاوز نجوم السماء؟ وكيف لنا أن نكون قد صعدنا فوق غشاء السماء كما عرفناه وعرفه جميع البشر ونحن لم نصل إلى هذا الـ”سقف” المزعوم والذي يتفضل علينا الآلهة أجمعين أنهم يحموننا من وقوعه على رؤوسنا؟ وكيف تخطينا “سقف” السماء ونحن لم نرى بعد “أبواب السماء” الموصودة للكافرين منا؟
بعد قليل من التدبر والتفكير, سنجد أنفسنا إبتعدنا كثيراً بتعريفنا للسماء عمّا بدأنا به وعمّا ألفناه في طفولتنا وعمّا إعتقده آبائنا الأولين. وسنجد أننا عاجزين عن تحديد السماء بحدود صريحة ودقيقة وأن سماءنا في حقيقتها ما هي إلا مجموعة غير محددة (وغير قابلة للتحديد) من الذرات الغازية القريبة من سطح الأرض وربما بعض الكواكب والنجوم. وفي نهاية المطاف سنجد أنه لا يوجد “شيء مادي معين” يمكننا أن نلقبه بـ “السماء”. وأن السماء ما هي إلا “وهم” نراه ونألفه ونعرفه بسبب موضعنا في الكون وبسبب صغرنا ومحدودية إدراكنا. فلو كنا (فرضاً) أكبر من الكرة الأرضية, لربما لم تكن لنا سماء. ولو كان أحدنا “إلهاً” لوجد فكرة السماء سخيفة ساذجة لا معنى لها إلا في مخيلة من خلقها: الإنسان.
وكذلك الروح. وكذلك الآلهة. وكذلك جميع الأساطير التافهة. فهي جميعاً أوهام, أوهام قد تبدو للكثير منا وكأنها واضحة وضوح “النهار” وقد يراها بعض الناس ويؤمنون بوجودها كما يرون السماء بصفائها وشمسها ونجومها وكما يؤمنون بزرقتها. ولكن بعد دراستها والنظر إليها بعين ثاقبة, نجد أنها كلها كالسماء: أوهام خلقتها عقول البشر لصغرها ولضعفها. ولعجزها عن فهم ماهيتها وسبب رؤيتهم لسرابها ولعجز عقولهم عن مواجهة أكبر أوهامها, والذي هو إنكارها لعجزها.
أنا لا ألوم محمد ولا ربه ولا ألوم أي من أديان أو حضارات وأساطير الأولين على جهلهم بحقيقة السماء وماهيتها. ولا ألوم محمد على إدعائه في قرآنه أن إلهه “يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه” (الحج ٦٥) أو أنه “رفعها” “بغير عماد” (الرعد ٢). فهم كلهم كانوا محرومين من نور العلم وكانوا يتخبطون في ظلمات الجهل فلم يكن بوسعهم إلا أن يتكهنوا بما لا يعلمون وأن يحاولوا وصف ما لا يدركون. وإنني كذلك لا ألوم نفسي وإخوتي وأخواتي من البشر إذا تحدثنا عن “سمائنا” و”أرواحنا” أو حتى عن “آلهتنا”. فأغلبنا ممن يحتاجون إلى هذه الكلمات وهذه الأوهام كي يحموا أنفسهم من أنفسهم وكلنا نلجأ إلى بعض هذه الأوهام في بعض الأحيان بسبب ضعفنا وجهلنا وصغرنا. أنا لا ألوم من جرّته هذه الأوهام ورائها ذليلاً لضعفه ولعجزه كإنسان. ولكنني ألوم كل اللوم من أتيح له من العلم ما يُمَكنه من أن يُدرك أنها أوهام ولكنه يرفض الإعتراف بالحقيقة. وألوم كل اللوم هذا الإنسان إن تشبث بالوهم. فمن يتشبث بالوهم لا يتشبث إلا بالضعف الذي جعله بحاجة للوهم وجعله ذليلاً أو حتى عبداً له.
سيأتي يوم على هذه الأرض يعرف فيه الجميع بأن “السماء” وهم وأن “الروح” وهم وأن “الله” وهم. ولكن لن يأتي يوم يكف فيه الناس عن عشق السماء. أو يكف فيه الأطفال عن معرفتها والتيه فيها وفي تأمل نجومها. بل ربما لن يأتي يوم يكف فيه الناس عن ذكر “أرواحهم” – حتى وهم يعلمون أنها كالسماء وهم. بل وربما لن يأتي يوم يكف فيه الناس عن قول “سبحان الله” أو “لا حول ولا قوة إله بالله” – حتى وهم يعلمون أنه كالسماء والأرواح وهم. ولكن…
ولكن سيأتي يوم يعرف فيه الناس أن هذه الأمور كلها أوهام. وأنا أعرف أن هذا اليوم قادم لا محالة. أعرف هذا كما أنتم تعرفون زرقة السماء…
وكما أنا أعرف أن السماء وهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق