خرافة الحرية ج2

فيلسوف الوجودية الملحدة / جان بول سارتر
حاول سام هاريس في كتابه الصغير المهم “حرية الإرادة” أن يفند خرافة الحرية برغم من انه كان متخوفا من ردود أفعال الناس و طريقة تعاطيهم مع الحقائق, و أكد في الكتاب على هذا المعنى أكثر من مرة. فبرغم تهافت و تناقض فكرة الحرية و إستحالة تحققها حتى نظريا فضلا عن التطبيق, إلا أنها من أحب الخرافات إلي قلوب الناس و أقواها في معتقداتهم .. خصوصا في عصر ما يعرف بــ “الليبرالية”. و عشق الناس لمفهوم خرافي مثل الحرية يفوق أحيانا كثيرة حبهم لمفهوم الإله الخرافي, بل ربما تجد نماذج كثيرة من الناس فقدت إيمانها بالإله الخرافي إنتصارا لمفهوم الحرية أساسا و ليس عشقا للحقيقة كقيمة علمية و عقلية و إنسانية.

الخرافة المحبوبة

و أبلغ مثال على هجر خرافة الإله بإسم خرافة الحرية هو الوجودية الملحدة للفيلسوف الفرنسي / جان بول سارتر, فهو يرى أن الإنسان لكي يعيش وجوده لابد أن يعيش حريته الكاملة .. لابد ان يثور على الآلهة. سارتر يقدس الحرية كأهم قيمة تتمحور حولها فلسفته, يقول أن الإنسان لابد يلقي عن ظهره الندم و يلفظ الخوف .. لابد ان يكون حريته. لابد ان يتحمل تبعات تصرفاته كاملة و أن يتحمل مسئولياته كلها. و هذة الحرية و تلك المسئولية هما ما لا تطلبه الآلهة للإنسان. أو أن الإنسان عندما لا يريد ان يعيش حريته و يتحمل المسئولية ينسحب و يخترع له إلها يحمله كافة المسئولية, و ينصاع لأوامره هو, بحيث لا يعذبه إختياره أو يقلقه. لكن الإنسان الحر لا ينصاع و لا يخضع, إنه لا يدخل قوالب, إنه يفكر و يعيش و يجرب, لنفسه و بنفسه, إنه حر و هو يختار, و هو مسئول عن ذلك.
سارتر كذلك يؤكد أن إكتشاف الحرية شيء لا يسر و لا يبهج, على العكس إنه يلهب الإنسان بإحساس الوحدة, يقضه بإحساس الإنعزال. فعندما أحس بحريتي يرتجف قلبي و تنخلع مفاصلي و أحس بعصب امعائي يكاد يعجزني عن الحركة. إن القلق يرهبني و يكاد يقتلني, ماذا أختار ؟ و ماذا سيكون مصير إختياري ؟ و ما هو الإختيار الحقيقي الذي يمنحني مزيدا من الحرية لي و للآخرين ؟ نعم, فالآخرين أيضا لهم حساب لأن الوجود مع الناس يستلزم ان تخضع الذات إلي قيم الناس, ان تسقط في هوة وجودهم. و سقوطها حتمي لأنها لا يمكن ان تلغي الناس, مع إن وجود الذات مع الناس وجود زائف و هي تلجأ إلي هذا الوجود لانها تخاف الحرية و تخاف أحوالها الوجودية.
جان بول سارتر هو أحد أشهر الفلاسفة الملحدين لكن الفلسفة الوجودية التي قدمها و تزعم الإتجاه الإلحادي فيها كانت أقرب إلي الشعر منها إلي أفكار موضوعية لها قوام متماسك أو مؤسسة على علم, هو يتخيل أن الإنسان حر حرية مطلقة و بالتالي مسئول مسئولية مطلقة .. و لذلك يعتبر أن المتهرب من الحرية هو أساسا متهرب من المسئولية الضخمة, الوجه الآخر للحرية. الكلام يبدو حماسيا لكن حين يتم تفكيكه يظهر العوار فيه, لأن الإنسان ليس وحدة مصمتة جامدة, ليس فرد صمد لم يلد و لم يولد .. بل هو كائن حي يشبه كل الكائنات الحية في أنه خاضع لقوانين الطبيعة الفيزيائية و الكيميائية و البيولوجية لأنه كائن طبيعي جدا لا سحر فيه و لا تكوين خارق. مجرد كائن مكون من ذرات و جزيئات و خلايا حية و بكتيريا نافعة و بكتيريا غير نافعة, إنسان خاضع لقوانين الجاذبية و الإنتخاب الطبيعي, سيموت لو تعرض إلي حرارة زائدة او حرارة ناقصة او تم حرمانه من المياة لفترة كافية.
لذلك فالإنسان ليس حرا بهذا المعنى المطلق, هو ليس حرا من المجتمع و ليس حرا من الدولة و ليس حرا من الطبيعة خارجه أو الطبيعة داخله, هو ليس حرا من ضعفاته و إحتياجاته و ليس حرا من قدراته و إمكانياته. مفهوم الحرية الخارق هذا تم إختراعه لتبرير المسئولية الذاتية و الأخلاقية و الإجتماعية و الدينية لا أكثر ولا أقل, و هي المفاهيم التي يمكن تفكيكها و فهمها فهما صحيحا و تأسيس المهم منها على حقائق صلبة بدلا من هذة الخرافات المائعة التي بلا قوام و لا معنى.

بين النسبية و الإطلاق

فلنحدد أولا بتعريف واضح ماهية الحرية. الحرية تعني الإنعتاق أو التخلص من قيود معينة او التزام معين أو عبودية معينة, و ربما بهكذا تعريف يمكن قبول الحرية كمفهوم له معنى. فالحرية هنا تحتاج إلي عبودية لكي يكون لها معنى, يجب أن تكون حرية من شيء ما أو من عبودية ما لكي تكون حرية .. لكن الحرية و كفى, الحرية بدون تحديد العبودية التي تنعتق منها الحرية فهنا لا يكون للحرية أي معنى. مفهوم الحرية المطلقة لا يمكن أن يعني أي شيء نظريا حتى, فضلا عن تطبيقه عمليا.
فمثلا حين تطلق وكالة ناسا صاروخا لمحطة الفضاء الدولية أو لمهمة على القمر أو المريخ مثلا, الصاروخ يكافح لكي يتحرر من الجاذبية الأرضية لكي ينطلق إلي الفراغ الكوني أو الفضاء. هو يتحرر من الجاذبية الأرضية لكنه لا يتحرر من قوانين الجاذبية التي تحكم العالم كله, قوانين الجاذبية التي تجعل ذرات الصاروخ تنجذب و تتماسك سويا, قوانين الجاذبية التي ستتيح للصاروخ الدوران حول القمر أو المريخ أو غيره. التحرر هنا نسبي و ليس مطلقا, مجرد تحرر من الجاذبية الأرضية لكنه ليس تحررا من كل جاذبية لأن هذا مستحيل نظريا و عمليا. فالحرية نسبية دائما و يستحيل ان توجد حرية مطلقة أبدا.
و بنفس الطريقة حين يفلت اليكترون من مداره حول نواة الذره, هو يفلت من مداره حول نواة لكي يدور في مدار آخر حول نواة أخرى فلا يمكن للإليكترون أن يطير هكذا دون أن ينجذب إلي مواد موجبة تحتاج إلي اليكترونات. و حين تحرر زنوج أمريكا من العبودية القانونية بإنتهاء الحرب الأهلية بين الشمال و الجنوب على يد إبراهام لينكولن, هم تحرروا من العبودية القانونية ليكونوا عبيد التفرقة العنصرية و النظام الرأسمالي الطبقي و يكونوا عبيد الفقر و الحاجة ككل مواطن آخر. و لو حدث مثلا ان قام في أمريكا نظام شيوعي مثلا, سيكونوا أيضا عبيد الدولة الشمولية المانحة المانعة. و لو لم يكن هناك أي نظام سياسي حتى, سيكونوا عبيد للفوضى الطبيعية و قوانين الإنتخاب الطبيعي “البقاء لمن هو أصلح للبقاء” و التي تحكم جميع الكائنات الحية.
لذلك فمن يتحرر من المفاهيم الدينية الخرافية فهو سيتحرر منها لصالح أشياء أخرى حتما. هو يتحرر من المفاهيم الدينية الخرافية لكي يهيم في فراغ كوني خاضعا للعشوائية الفوضوية, أو ربما يجد مدار فلسفي أو مدار علمي أو أي مدار آخر يدور حوله و يلتزم به. هذا هو كل المكان و لا مفر منه او هروب, هناك شمس و هناك كواكب و هناك مذنبات و هناك ثقوب سوداء و نجوم و الفضاء أمامك يمكنك ان تهيم فيه خاضعا و ملتزما بالعشوائية هاربا من كل نظام أو مدار .. أو يمكنك ان تدور حول نجم او كوكب او حتى قمر, و في كل الأحوال كلنا نخضع لقوانين الجاذبية.
و هكذا لا مجال لحرية مطلقة أبدا, الحرية المطلقة معناها العدم. يمكن لأي إنسان أن يتحرر من مدار معين لكنه لن يمكنه مهما أوتي من قوة و إرادة أن يتحرر من قوانين الجاذبية نفسها. تصلح في الفيزياء و تصلح في الحياة و الإجتماع أيضا, فكل إنسان منا له فلسفة في الحياة يلتزم بها شاء أم أبى .. لديه نمط سلوكي شاء أم أبى. فمن لديه التزام بمبدأ التضحية بالذات من أجل الآخرين لا يقل إلتزاما عن من لديه التزام بمبدأ التضحية بالآخرين من أجل الذات, و حتى من لا يلتزم بأي مبدأ فيقوم بالشيء و عكسه و يقوم بشيء جديد و مختلف يوميا هو شخص ملتزم بمبدأ اللامبدأ أيضا. فمع إن هناك مبادئ جيدة و نافعة و هناك مبادئ فاسدة و ضارة إلا أن هناك دائما مبدأ يمكن معرفته بمراقبة السلوك و ملاحظة النمط أو الإنتظام البادي في السلوك .. و لا مهرب من ذلك أبدا إلا بالموت و الفناء النهائي.

الألوهية و الحرية أعداء السببية

و مع إن مفهوم الألوهية (القدرة المطلقة) و الحرية (المطلقة أيضا) هي مفاهيم خرافية متناقضة ذاتيا, إلا أن التجمعات البشرية إخترعتها لتبرير المسئولية الأخلاقية. فكيف يمكن لإله ان يحاسب إنسان لم يكن حرا في إختياراته و سلوكه ؟! بالتأكيد يجب أن يكون هناك حرية لكي يكون هناك مسئولية و محاسبة. و بدون حتى الخرافات الدينية, يصعب على الكثيرين فهم المنطق الذي يمكن أن يلزم الناس بتحمل مسئولية إختياراتهم و سلوكهم و هم مدفوعين و خاضعين لأسباب قهرية لا فكاك منها. فالقاتل إذا لم يكن حرا في قراره و فعله, فلا معنى لمحاكمته و حسابه, و المحكمة التي تقتنع بان القاتل مجنون أو انه تورط في القتل في غير وعيه أو رغم إرادته فإنها لا تحكم عليه بالسجن بل بالإيداع في مستشفى للأمراض العصبية و العقلية.
لكن إذا كان كل الناس ليسوا أحرار فهم بالتالي ليسوا مسئولين عن جرائمهم ولا يمكن محاكمتهم أو محاسبتهم, و ليفعل كل إنسان ما يشاء يقتل و يسرق و يؤذي لا يحاسبه أحد لأنه مسكين غير مسئول عن تصرفاته !!
و هذا الإستنكار يبدو وجيها و مبررا لأنه منطلق من ربط حتمي بين المسئولية و حرية الإرادة, و إذا كان هذا الربط حتميا و نهائيا و قاطعا بالفعل فحينها يكون الكلام عن الحتمية الطبيعية من سوء الأدب و الدعوة للتفسخ و الإجرام .. لكن من حسن الحظ أن هذة ليست الحالة المطروحة. مبدأيا الحق و الحقيقة أهم و أعلى من أي شيء و كل شيء, فلو كانت الحقيقة لها تبعات إجتماعية سيئة و مؤذية فيا أهلا بالمصائب و الكوارث لكن أبدا لا يمكن أن نقيم نظاما إجتماعيا معتمدا على كذبة او خرافة تحت أي ظرف من الظروف. فإذا كانت الحرية خرافة فلا معنى لتبرير الحرية بمنطق المنفعة الإجتماعية, مادام الإتهام للحرية بالزيف و التخريف فالتبرير يجب أن يجعلها حقيقة و ليست منفعة .. فعلى من يدافع أن يثبت أنها حقيقة واقعية و ليس أنها ضرورة حتمية. ثانيا : من قال أن أن المسئولية الإجتماعية و الأخلاقية عن السلوك و الأفعال و الإختيارات مرتبطة بأي شكل من الأشكال بحرية إرادة الإنسان ؟!! حرية الإنسان هي خرافة .. بالعقل بالمنطق بالعلم هي خرافة, لكن المسئولية موضوع آخر تماما.
يعني حين تحرق النار منزلا هل تكون النار شريرة أحرقت المنزل بإيحاء من الشيطان ؟!! النار تحرق لأنها حارقة بطبيعتها و الناس تطفئ الحريق بغض النظر عن كون النار حرة أم مجبرة, نحن نتعامل مع الواقع كما هو ولا نتعامل مع توهمات أو تخيلات. نحن نطفئ النار بالمياة لان النار تحرق و المياة تطفئ, و لن يظن احد ان النار ستحاسب على سيئاتها و خطاياها بالتعذيب الأبدي في جهنم مثلا !! لا أحد يطفئ النار بإعتبارها حرة في أن تحرق أو لا تحرق .. أو أنها مسئولة عن إختياراتها, لكننا نطفئ النار بإعتبارها تحرق فقط لا أكثر و لا أقل. و كما أن النار تحرق فالمسدس يطلق النار و السم يقتل و المجرم يؤذي و اللص يسرق و المغتصب يغتصب و الفيروس يُمرض, كلهم ليسوا أحرار و كلهم ليسوا مسئولين عن أفعالهم و مع ذلك نحن نكافحهم و نمنعهم من أذيتنا بالعلم و الأدوات و التقنيات الإجتماعية. و سجن السارق أو القاتل يمكن فهمه كحالة عزل لشخص مريض بمرض يمنعه من الالتزام بقواعد و قوانين المجتمع الضرورية, تماما كما يتم عزل المصابين بمرض وبائي من خلال الحجر الصحي .. فهل الحجر الصحي يعني أن المصابين بالطاعون مثلا أو بأي عدوى هم ناس سيئي السلوك يستحقوا العقاب و التنكيل ؟!!
طبعا لا, سواء في حالة الحجر الصحي أو الحجر الأمني بالنسبة للمصابين بالسرقة أو الإنحراف فهذة إجراءات أمنية ضرورية يتم إتباعها للحفاظ على أمن و سلامة المجتمع و ليست إجراءات إنتقامية حاقدة لعقاب المنحرفين .. لأن الإنتقام عموما هو موقف همجي لا فائدة منه و لا معنى غير تطييب خاطر ناس بربرية تعتقد أن البشر أحرار. و بمنطق الإنتقام البربري هذا فمن يصاب بعدوى الأنفلونزا عليه معاقبة من عطس بجواره لأنه هو من قام بنقل الفيروس الممرض إليه !! إنما أي مجتمع عاقل سيتعامل بالسببية المنطقية العلمية مع الواقع كما هو لا الواقع كما يتوهمه, و سيكافح الجريمة و الفوضى بالعقل و المنطق و ليس بالخرافات الدينية و اللامنطقية.
فإفتراض أن الإنسان حر في إختياراته يفترض فيه ألوهية ما, يفترض فيه شيء خارق للعادة يميزه عن بقية الكائنات الحية و الموجودات عموما .. لكن هذة العقيدة باطلة بكل تأكيد. الإنسان ككل كائن حي هو مجرد شيء لا أكثر ولا أقل. شيء مكون من أشياء و يمكن دراسته و تحليل سلوكه و تبيان دوافعه الحتمي منها و الإحتمالي, مثله مثل الإليكترون و الجاذبية و النار و الضوء و الحديد و النمل و الدببة و السمك .. مجرد مادة لها خصائص و سلوك كأي شيء آخر. و موضوع الحرية هذا ليس الغرض منه تبرير المسئولية الإجتماعية كما يشاع و يقال, بل الغرض منه هو إضفاء شيء سحري و خارق على الإنسان يجعله متميز و مختلف عن غيره من الكائنات و الموجودات .. لكن بالكذب و الزيف و الخرافة.

الحقيقة أم الحرية

الحقيقة أهم و أعلى من الإنسان, و من كل إنسان .. و الإنسان هو مجرد آلة بيوكيميائية تعمل وفق قواعد معينة, شاء من شاء و أبى من أبى. الفارق فقط بين الكائنات الحية (الآلات البيوكيميائية عموما) و بقية الكائنات الفيزيائية مثل الحديد أو النحاس أو الأوكسجين أو النار أو الكوكب أو المجرة, هو أن الكائنات الحية حديثة النشأة نسبيا و بالتالي فهي أكثر تعقيدا من حيث التكوين و آلية العمل .. و هو ما يجعلها أكثر ميلا إلي الفوضى عن غيرها من الأنظمة الفيزيائية. يعني إذا كانت الفيزياء و الفلك و الرياضيات يمكنهم ان يتنبأوا بالكسوف و الخسوف بمنتهى الدقة, فالبيولوجيا و الإجتماع و النفس يمكنهم أن يتنبأوا بالسلوك البشري و التحكم فيه بدقة أقل. ليس لأن الكائنات الحية مميزة عن الكائنات الغير حية او أنها مسحورة بأي شكل من الأشكال عن طريق كائنات روحية غامضة .. بل لأن الآلات البيوكيميائية تنتج فوضى (إنتروبي) أكبر من الآلات الفيزيائية بحكم تكوينها. لكن لا فارق بين السلحفاة و الأوزون و الشمس في كونهم موجودات طبيعية تخضع لقوانين الطبيعة, كما أنه لا فارق بين القرد البشري و الحديد و الثقب الأسود في كونهم موجودات طبيعية تخضع لقوانين الطبيعة.
و المشكلة الأساسية في أفكار خرافية مثل الألوهية و الحرية هو التنظير و التقنين للسطحية و الغباوة .. لان منطق المسئولية الإجتماعية المرتبط بالحرية لا الضرورات التنظيمية الإجتماعية, يفترض و يتعامل مع الإنسان كواقعة محددة مسطحة ثنائية الأبعاد لا أصل لها ولا تاريخ ولا عمق ولا سبب. فالمجرم أجرم لأنه شرير و كفى, من واجب المجتمع أن يقتص منه و ينتقم و من حق الله (و ليس من واجب الله) أن يقتص منه و ينتقم بالتعذيب الشنيع الخارق إلي أبد الآبدين. لكن لا حديث عن السببية أبدا, لا حديث عن الأسباب العملية الطبيعية التي تجعل المجتمع ينتج المجرمين من الأساس. الوقائع الإجرامية يتم تناولها بسطحية كحالة قتل أو سرقة او غيره و يتم معالجتها بهذا الإجتزاء و الإقتطاع, و بدون أي تعمق من أي جهة في جدوى نظام إجتماعي لا يستطيع أن يقنع نسبة كبيرة من المجتمع ان يلتزموا بالقوانين .. أو ينتج الكثير من المجرمين و السايكوبات.
و يبدو هذا واضحا في أكبر مجتمع متحرر ينادي و يطالب بالحرية في العالم, في البلد التي يعلو على أهم مدنها على المحيط الأطلنطي تمثال يجسد الحرية يقف في شموخ لكي يستقبل المهاجرين و الزائرين .. و مكتوب تحته : أعطني تعبك، فقرك، السنوات الطويلة التي تجرها بعناء للتنفس بحرية. فالولايات المتحدة الامريكية هي الدولة الأولى في العالم من حيث نسبة المساجين إلي تعداد السكان (من كل 30 مواطن أمريكي هناك مواطن مسجون تقريبا), و قد نشرت أحدث التقارير الصادرة عن الحكومة الأمريكية إرتفاع عدد نزلاء السجون الأمريكية لعام 2007، محققه رقماً قياسياً، إذ بلغ أكثر من 7.3 مليون سجين، مما يشكل ربع المساجين في كل أرجاء العالم !! ربع مساجين العالم كله أمريكان ؟!! (هل توقعت أن تكون الصين صاحبة هذا المركز ؟) يعني أكثر بلدان العالم حرية هي أكثر بلدان العالم إجراما و سجنا للمجرمين .. فهل أمريكا هي بلد الحريات أم بلد السجون !!
The Shawshank Redemption
ناهيك طبعا عن العبودية التي قامت عليها أمريكا و كل دول القارتان الأمريكيتين تقريبا. فمنذ القرن السادس عشر و حتى 22 سبتمبر 1862 حين أعلن الرئيس الأمريكي لينكولن تحرير العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية, كان العبيد الزنوج المخطوفين من أفريقيا هم قوام الإقتصاد الأمريكي إبتداء من الخدمة في المزارع و حتى إنشاء السكك الحديدية. لقد كان العبيد كعمالة مجانية و العبودية كظروف عمل و حياة أسوأ من أسوأ دولة شيوعية مستبدة غاشمة في عصرنا الحالي هم سبب قوة و عظمة أكبر بلد تنادي بالحرية في العالم !!
و حتى بعد تحرير العبيد ظلت التفرقة العنصرية قائمة إلي أن تم إغتيال مارتن لوثر كينج في 4 أبريل 1968 و إنتشار العنف و التخريب في أنحاء أمريكا جراء ذلك, ثم بعد أسبوع من جنازة كينج وقّع الرئيس الأمريكي ليندون جونسون قانون الحقوق المدنية الذي يضمن العدل والمساواة بين الأعراق. و حتى بعد إنهاء حالة التمييز العنصري لا يزال الملونون في أمريكا يعانون من الفقر و البطالة و التمييز السلبي في المجتمع الأمريكي بالنسبة للبيض .. فيبدو أن الكلام عن الحرية في العالم الحر أسهل من التحرير بالفعل داخل أكبر بلد صارخة بإسم الحرية.

الخاتمة

يمكن وصف العمالة العصرية بأنها عبودية مقنعة بعد ان كانت عبودية مقننة, فأي إقتصاد يحتاج إلي رأسماليين برجوازيين و شغيلة عمال لكي يقوم و يستمر. فأن تسمي الشغيلة عبيد و تحرمهم من أي حقوق او تسميهم عمال و تعطيهم بعض الحقوق فهذا لن يغير شيئا من طبيعة الأنظمة الطبقية الهرمية .. و هي الأنظمة التي لا يمكن الإستغناء عنها بالمناسبة لأن الطبقية هي أساس أي نظام ديناميكي متطور و الإستغناء عن الطبقية أيا كان نوعها يعني جمود المجتمع و إصابته بالتكلس و الشلل .. هذا لو حدث أصلا و تم قتل الطبقية, لان الطبقية ليست بالضرورة هي طبقية رأس المال فهي قد تكون طبقية من أي نوع.
لكن بوجه عام فالحرية متناقضة ذاتيا لو تم بحثها نظريا, لأن مفهوم الحرية يفترض ان الإنسان لديه شيء ما يفوق الطبيعة و يفوق السببية ولا يمكن توصيفه أو الإشارة إليه .. و هذا الشيء ليس كيانا محددا واضحا بأي شكل. فانت قد تسميه الروح أو تسميه الحرية أو قد تسميه أي إسم .. لكنك لن تستطيع توصيفه لأنه فعليا بلا وجود إلا في تمنيات الإنسان أن يتجاوز الطبيعة التي هو جزء منها كما أنها كل الإنسان. لكن لا شئ لا يمكن بحثه و معرفة أسبابه أبدا, و لا يمكن ان نكتفي بقول “ان فلان شرير” أو “ان فلان طيب” مثلا .. هذة غباوة و سطحية. لأن لكل شيء سبب, فالشر له أسباب و الطيبة لها أسباب .. كما أن أي موهبة أو ميزة أو إعاقة أو عجز لهم أسباب يمكن فهمها و دراستها.
لذلك فالتعامل مع الإنسان بمنطق الحرية يفترض أن كل إنسان هو آدم أو حواء, لا أصل له ولا تاريخ ولا أسباب .. و بالتالي سيفشل التعامل حتما كما فشلت أمريكا في إقامة نظام إجتماعي جيد برغم تقدمها الإقتصادي و العسكري. لكن أن نعرف الأسباب وراء كل شيء سيتيح لنا إختراع تقنيات علمية للتحكم في الأسباب : يعني لو تخلينا عن فكرة الحرية الخرافية سنعرف أن الجريمة تنشأ مثلا بسبب التفاوت الطبقي الضخم أو بسبب الفقر أو البطالة أو بسبب التحفيز الإعلاني الرأسمالي الزائد عن الحد أو أيا كانت الأسباب .. و من ثم يستطيع المجتمع ليس فقط منع جريمة قبل وقوعها بل محاصرة الجريمة (مثلا) كظاهرة كلية من خلال التعامل مع أصولها و أسبابها. فخرافة الحرية كخرافة الألوهية هي مجرد حيل نفسية لمواجهة السببية اللامحدودة الكامنة خلف كل نتيجة نجدها في هذا العالم, و الإستسلام لمثل هذة الخرافات سيعفي المرء حتما من فهم أسباب حدوث الأشياء و من ثم سيفشل حتما في علاجها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق